فصل: قال أبو حامد الغزالي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الحكم الثاني: هل الردة تحبط العمل وتذهب بحسنات الإنسان؟

دل قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} على أن الردة تُحبط العملَ، وتُضيع ثواب الأعمال الصالحة، وقد اختلف العلماء في المرتد هل يحبط عمله بنفس الردة، أم بالوفاة على الكفر؟
فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن العمل يحبط بنفس الردّة.
وقال الشافعي رحمه الله: لا يبطل العمل إلا بالموت على الكفر.
حجة الشافعي قوله تعالى: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} فقد قيّده بالموت على الكفر، فإذا أسلم بعد الردة لم يثبت شيء من الأحكام، لا حبوط العمل، ولا الخلود في النار.
وحجة مالك وأبي حنيفة قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] فقد دلت الآيتان على أن الكفر محبط للعمل بدون تقييد بالوفاة على الكفر.
وقد انبنى على ذلك خلافهم في المسلم إذا حجّ ثم ارتد ثم أسلم.
فقال مالك وأبو حنيفة يلزمه إعادة الحج، لأن ردته أحبطت حجه.
وقال الشافعي: لا حج عليه لأن حجة قد سبق، والردة لا تحبطه إلا إذا مات على كفره.
قال ابن العربي في تفسيره أحكام القرآن: واستظهر علماؤنا بقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقالوا: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته، لأنه صلى الله عليه وسلم يستحيل منه الردة، وإنما ذكر الموافاة، شرطًا هاهنا لأنه علّق عليها الخلود في النار جزاءً ممن وافى كافرًا خلّده في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين مختلفين، وحكمين متغايرين.
أقول: ظواهر النصوص تشير إلى إحباط العمل بالردّة مطلقًا، فالراجح قول المالكية والحنفية والله أعلم.

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- القتال مكروه للنفوس ولكنه سبيل لنصرة الحق وإعزاز الدين.
2- لا ينبغي للمؤمن أن يتقاعس عن الجهاد لأن فيه النصر أو الشهادة.
3- الصد عن دين الله، والكفر بآيات الله أعظم إثمًا من القتال في الشهر الحرام.
4- الهدف من قتال المشركين للمسلمين ردهم إلى الكفر بشتى الطرق والوسائل.
5- الردة عن الإسلام تحبط العمل وتخلد الإنسان في نار جهنم. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.سؤال: لم قدم الهجرة على الجهاد؟

الجواب: قدم الهجرة على الجهاد لتقدمها عليه في الوقوع تقدم الإيمان عليهما. اهـ.

.سؤال: لم أثبت لهم الرجاءَ دون الفوز بالمرجوِّ؟

الجواب: أثبت لهم الرجاءَ دون الفوز بالمرجوِّ للإيذان بأنهم عالمون بأن العملَ غيرُ موجبٍ للأجر وإنما هو على طريق التفضُّلِ منه سبحانه لا لأن في فوزهم اشتباهًا. اهـ.

.سؤال: لم كرر الموصول؟

الجواب: وكرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء. وجيء باسم الإشارة للدلالة على أن رجاءهم رحمةَ الله لأجل إيمانهم وهجرتهم وجهادهم، فتأكد بذلك ما يدل عليه الموصول من الإيماء إلى وجه بناءِ الخبر، وإنما احتيج لتأكيده لأن الصلتين لما كانتا مما اشتهر بهما المسلمون وطائفة منهم صارتا كاللقب؛ إذ يطلق على المسلمين يومئذٍ في لسان الشرع اسم الذين آمنوا كما يطلق على مسلمي قريش يومئذٍ اسم المهاجرين فأكد قَصدُ الدلالة على وجه بناء الخبر من الموصول. اهـ.

.سؤال: فإن قيل: فكيف قال: {أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ} ورحمة الله للمؤمنين مستحقة؟

ففيه جوابان:
أحدهما: أنهم لما لم يعلموا حالهم في المستقبل جاز أن يرجوا الرحمة خوفًا أن يحدث من مستقبل أمورهم مالا يستوجبونها معه.
والجواب الثاني: أنهم إنما رجوا الرحمة لأنهم لم يتيقنوها بتأدية كل ما أوجبه الله تعالى عليهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

إن الذين صدقوا في قصدهم، وأخلصوا في عهدهم، ولم يرتدوا في الإرادة على أعقابهم، أولئك الذين عاشوا في رَوْحِ الرجاء إلى أن يصلوا إلى كمال البقاء ودار اللقاء. اهـ.

.قال الخازن:

قال قتادة: أثنى الله تعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الثناء فقال: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله} هؤلاء هم خيار هذه الأمة ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وأنه من رجا طلب ومن خاف هرب. اهـ.

.قال صاحب روح البيان:

قيل إن الحجاج لما أحضرته الوفاة كان يقول اللهم اغفر لى فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل ومات بواسط سنة خمس وتسعين وهى مدينته التي أنشأها وكان يوم موته يسمى عرس العراق ولم يعلم بموته حتى أشرفت جارية من القصر وهى تبكى وتقول ألا إن مطعم الطعام ومفلق الهام قد مات ثم دفن ووقف رجل من أهل الشام على قبره فقال اللهم لا تحرمنا شفاعة الحجاج وحلف رجل من أهل العراق بالطلاق أن الحجاج في النار فاستفتى طاووس فقال: يغفر الله لمن يشاء وما أظنها إلا طلقت فيقال إنه استفتى الحسن البصرى فقال: اذهب إلى زوجتك وكن معها فإن لم يكن الحجاج في النار فما يضركما أنكما في الحرام فقد وقفت من هذا المذكور على أن الله تعالى غفور رحيم يغفر لعبده وإن جاء بمثل زبد البحر ذنبا، فاللازم للعباد الرجاء من الله تعالى.
قال الراغب: وهذه المنازل الثلاثة التي هي الإيمان والمهاجرة والجهاد هي المعنية بقوله: {اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله} ولا سبيل إلى المهاجرة إلا بعد الإيمان ولا إلى جهاد الهوى إلا بعد هجران الشهوات ومن وصل إلى ذلك فحق له أن يرجو رحمته. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله}.
قال ابن عطية: الهجرة الانتقال من موضع إلى موضع بنية الإقامة، ومن قال: الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد وهم بسبب أن ذلك كان الأغلب عندهم فيلزم أن لايكون أَهلُ مكّة مهاجرين عنده بالإطلاق.
قال ابن عرفة: الهجرة الانتقال من الوطن إلى محل نصرة النّبي ويقرب منه الهجرة في موضع كثير المنكر إلى موضع أخف منه.
فان قلت: لم قال: {يَرْجُونَ رَحْمَةَ الله}.
وكل مؤمن ولو كان من أهل الكبائر يرجو رحمة الله.
قلت: فالجواب: أن هذا رجاء شهد الله تعالى لهم به، فدل ذلك على صحته.
ونظيره: من يزرع فدانا في سنة خصيبة ويوفي بخدمته فيراه الفلاحون فيقولون: هذا زرع يرجو صاحبه بلوغ الأمل، وآخر يزرع فدانا يراه الفلاحون فيذمونه وربه يستحسنه ويرجوا أن يبلغ فيه الأمر ويعتقد ذلك فليس الرجاءان سواء.
فإن قلت: هلا قيل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا والَّذِينَ جَاهَدُوا} أو بحذف الموصول فيهما واكتُفي بذكره في الأول؟ فالجواب أنه قصد التنبيه على أن مجرد الإيمان كاف في حصول المطلوب من ترجي رحمة الله تعالى، ولما كانت الهجرة إنّما هي للجهاد مع النّبي ونصرته كانا كالشيء الواحد فلذلك لم يكرر ذكر الموصول مع الجهاد.
قلت لابن عرفة في الختمة الأخرى: إن الآية حجة على المعتزلة في قولهم إن الطائع يجب على الله أن يثيبه لأن الرجاء إنما يتعلق بالمظنون لا بالمحقق، فلو كان الثواب محققا لما قال يرجون رحمة الله؟ فقال: لهم أن يجيبوا بأن من هاجر وجاهد لا يعلم أيموت مسلما أو لا؟ فهو لا يتحقق خاتمته فصح إسناد الترجي إليه وبطل الدليل. اهـ.

.قال أبو حامد الغزالي:

فإن قلت: فأين الغلط في قول العصاة والفجار إن الله كريم وإنا نرجو رحمته ومغفرته، وقد قال أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرًا، فما هذا إلا كلام صحيح مقبول الظاهر في القلوب؟ فاعلم أن الشيطان لا يغوي الإنسان إلا بكلام مقبول الظاهر مردود الباطن، ولولا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كشف عن ذلك فقال «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله» وهذا هو التمني على الله تعالى غير الشيطان اسمه فسماه: رجاء، حتى خدع به الجهال. وقد شرح الله الرجاء فقال: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله} يعني أن الرجاء بهم أليق وهذا لأنه ذكر أن ثواب الآخرة أجر وجزاء على الأعمال قال الله تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون} وقال تعالى: {وإنما توفون أجوركم يوم القيامة} أفترى أن من استؤجر على إصلاح أوان وشرط له أجرة عليها وكان الشارط كريمًا يفي بالوعد مهما وعد ولا يخلف بل يزيد، فجاء الأجير وكسر الأواني وأفسد جميعها ثم جلس ينتظر الأجر ويزعم أن المستأجر كريم، أفيراه العقلاء في انتظاره متمنيًا مغرورًا أو راجيًا؟ وهذا للجهل بالفرق بين الرجاء والغرة. قيل للحسن: قوم يقولون نرجو الله ويضيعون العمل فقال: هيهات هيهات! تلك أمانيهم يترجحون فيها، من رجا شيئًا طلبه ومن خاف شيئًا هرب منه. وقال مسلم بن يسار: لقد سجدت البارحة حتى سقطت ثنيتاي! فقال له رجل: إنا لنرجو الله! فقال مسلم: هيهات هيهات؟ من رجا شيئًا طلبه ومن خاف شيئًا هرب منه. وكما أن الذي يرجوا في الدنيا ولدًا وهو بعد لم ينكح أو نكح ولم يجامع أو جامع ولم ينزل! فهو معتوه فكذلك من رجا رحمة الله وهو لم يؤمن أو آمن لم يعمل صالحًا أو عمل ولم يترك المعاصي فهو مغرور. فكما أنه إذا نكح ووطئ وأنزل بقي مترددًا في الولد يخاف ويرجو فضل الله في خلق الولد ودفع الآفات عن الرحم وعن الأم إلى أن يتم فهو كيس، فكذلك إذا آمن وعمل الصالحات وترك السيئات وبقي مترددًا بين الخوف والرجاء يخاف أن لا يقبل منه وأن لا يدوم عليه وأن يختم له بالسوء، ويرجوا من الله تعالى أن يثبته بالقول الثابت ويحفظ دينه من صواعق سكرات الموت حتى يموت على التوحيد، ويحرس قلبه عن الميل إلى الشهوات بقية عمره حتى لا يميل إلى المعاصي فهو كيس، ومن عدا هؤلاء فهم المغرورون بالله: {وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا}، {ولتعلمن نبأه بعد حين} وعند ذلك يقولون كما أخبر الله عنهم {ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحًا إنا موقنون} أي علمنا أنه كما لا يولد إلا بوقاع ونكاح ولا ينبت زرع إلا بحراثة وبث بذر، فكذلك لا يحصل في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح فارجعنا نعمل صالحًا فقد علمنا الآن صدقك في قولك {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى}، {كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير} أي ألم نسمعكم سنة الله في عباده وأنه {توفى كل نفس ما كسبت} وأن {كل نفس بما كسبت رهينة} فما الذي غركم بالله بعد أن سمعتم وعقلتم؟ {قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقًا لأصحاب السعير}.
فإن قلت: فأين مظنة الرجاء وموضعه المحمود؟ فاعلم أنه محمود في موضعين:
أحدهما: في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة فقال له الشيطان: وأنى تقبل توبتك فيقنطه من رحمة الله تعالى: فيجب عند هذا أن يقمع القنوط بالرجاء ويتذكر {إن الله يغفر الذنوب جميعًا} وأن الله كريم يقبل التوبة عن عباده وأن التوبة طاعة تكفر الذنوب قال الله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم} أمرهم بالإنابة وقال تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى} فإذا توقع المغفرة مع التوبة فهو راج، وإن توقع المغفرة مع الإصرار فهو مغرور، كما أن من ضاق عليه وقت الجمعة وهو في السوق فخطر له أن يسعى إلى الجمعة فقال له الشيطان: إنك لا تدرك الجمعة فأقم على موضعك فكذب الشيطان ومر يعدو وهو يرجو أن يدرك الجمعة فهو راج، وإن استمر على التجارة وأخذ يرجو تأخير الإمام للصلاة لأجله إلى وسط الوقت أو لأجل غيره أو لسبب من الأسباب التي لا يعرفها فهو مغرور.
الثاني: أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال ويقتصر على الفرائض فيرجى نفسه نعيم الله تعالى وما وعد به الصالحين حتى ينبعث من الرجاء نشاط العبادة فيقبل على الفضائل ويتذكر قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} إلى قوله: {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} فالرجاء الأول: يقمع القنوط المانع من التوبة. الرجاء الثاني: يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمر، فكل توقع حث على توبة أو على تشمر في العبادة فهو رجاء، وكل رجاء أوجب فتورًا في العبادة وركونًا إلى البطالة فهو غرة، كما إذا خطر له أن يترك الذنب ويشتغل بالعمل فيقول له الشيطان: مالك ولإيذاء نفسك وتعذيبها ولك رب كريم غفور رحيم؟ فيفتر بذلك عن التوبة والعبادة فهو غرة، وعند هذا واجب على العبد أن يستعمل الخوف فيخوف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه ويقول: إنه مع أنه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، وإنه مع أنه كريم خلد الكفار في النار أبد الآباد، مع أنه لم يضره كفرهم، بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا وهو قادر على إزالتها، فمن هذه سنته في عباده وقد خوفني عقابه فكيف لا أخافه وكيف أغتر به؟
فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل، فما لا يبعث على العمل فهو تمن وغرور. ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم وسبب إقبالهم على الدنيا وسبب إعراضهم عن الله تعالى وإهمالهم السعي للآخرة، فذلك غرور فقد أخبر صلى الله عليه وسلم وذكر أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة وقد كان ما وعد به صلى الله عليه وسلم فقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون على العبادات ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، يخافون على أنفسهم وهم طول الليل والنهار في طاعة الله يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات ويبكون على أنفسهم في الخلوات. وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله، راجون لعفوه ومغفرته، كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون. فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى وينال بالهوينى فعلام إذن كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم؟ وقد ذكرنا تحقيق هذه الأمور في كتاب الخوف والرجاء وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه معقل بن يسار «يأتى على الناس زمان يخلق فيه القرآن في قلوب الرجال كما تخلق الثياب على الأبدان أمرهم كله يكون طمعًا لا خوف معه، إن أحسن أحدهم قال: يتقبل مني، وإن أساء قال: يغفر لي» فأخبر أنهم يضعون الطمع موضع الخوف لجهلهم بتخويفات القرآن وما فيه. وبمثله أخبر عن النصارى إذ قال تعالى: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا} ومعناه أنهم {ورثوا الكتاب} أي هم علماء {ويأخذون عرض هذا الأدنى} أي شهواتهم من الدنيا حرامًا كان أو حلالًا. وقد قال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}- {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعبد} والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف، لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه إن كان مؤمنًا بما فيه. وترى الناس يهذونه هذا، يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها وكأنهم يقرؤون شعرًا من أشعار العرب لا يهمهم الالتفات إلى معانيه والعمل بما فيه وهل في العالم غرور يزيد على هذا؟ فهذه أمثلة الغرور بالله وبيان الفرق وبين الرجاء والغرور، ويقرب منه غرور طوائف لهم طاعات ومعاص إلا أن معاصيهم أكثر، وهم يتوقعون المغفرة ويظنون أنهم تترجح كفة حسناتهم مع أن ما في كفة السيئات أكثر، وهذا غاية الجهل فترى الواحد يتصدق بدراهم معدودة من الحلال والحرام ويكون ما يتناول من أموال المسلمين والشبهات أضعافه، ولعل ما تصدق به من أموال المسلمين! وهو يتكل عليه ويظن أن أكل ألف درهم حرام يقاومه التصدق بعشرة من الحرام أو الحلال، وما هو إلا كمن وضع عشرة دراهم في كفة ميزان وفي الكفة الأخرى ألفًا وأراد أن يرفع الكفة الثقيلة بالكفة الخفيفة وذلك غاية جهله. نعم ومنهم من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه لأنه لا يحاسب نفسه ولا يتفقد معاصيه، وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم مائة مرة ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم ويتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار من غير حصر وعدد، ويكون نظره إلى عدد سبحته أنه استغفر الله مائة مرة وغفل عن هذيانه طول نهاره الذي لو كتبه لكان مثل تسبيحه مائة مرة أو ألف مرة، وقد كتبه الكرام الكاتبون وقد أوعده الله بالعقاب على كل كلمة فقال: {وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} فهذا أبدًا يتأمل في فضائل التسبيحات والتهليلات ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين، يظهرون من الكلام ما لا يضمرونه إلى غير ذلك من آفات اللسان. وذلك محض الغرور. ولعمري لو كان الكرام الكاتبون يطلبون منه أجرة النسخ لما يتكبونه من هذيانه الذي زاد على تسبيحه لكان عند ذلك يكف لسانه حتى عن جملة منن مهماته، وما نطق به في فتراته كان يعده ويحسبه ويوازنه بتسبيحاته، حتى لا يفضل عليه أجرة نسخه! فيا عجبًا لمن يحاسب نفسه ويحتاط خوفًا على قيراط يفوته في الأجرة على النسخ ولا يحتاط خوفًا من فوت الفردوس الأعلى ونعيمه! ما هذه إلا مصيبة عظيمة لمن تفكر فيها! لقد دفعنا إلى أمر إن شككنا فيه كنا من الكفرة الجاحدين وإن صدقنا به كنا من الحمقى المغرورين! فما هذه أعمال من يصدق بما جاء به القرآن، وإنا نبرأ إلى الله أن نكون من أهل الكفران فسبحان من صدنا عن التنبه واليقين مع هذا البيان، وما أجدر من يقدر على تسليط مثل هذه الغفلة والغرور وعلى القلوب أن يخشى ويتقي ولا يغتر به اتكالًا على أباطيل المنى وتعاليل الشيطان والهوى، والله أعلم. به كنا من الحمقى المغرورين! فما هذه أعمال من يصدق بما جاء به القرآن، وإنا نبرأ إلى الله أن نكون من أهل الكفران فسبحان من صدنا عن التنبه واليقين مع هذا البيان، وما أجدر من يقدر على تسليط مثل هذه الغفلة والغرور وعلى القلوب أن يخشى ويتقي ولا يغتر به اتكالًا على أباطيل المنى وتعاليل الشيطان والهوى، والله أعلم. اهـ.